بقلم / مجاهد منعثر منشد
الإِمَامُ الحسن المجتبى بقية المؤمنين , ابن اول المسلمين ,علم المهتدين , سليل الهدى , حليف التقى, خازن علم الله , حافظ سره , ترجمان وحيه , ارتضاه الله للإمامة , واجتباه للخلافة , خليفة أمير المؤمنين، الإِمَامُ الرضي الهادي المرضي، علم الدّين وامام المتـّقين العامل بالحقّ والقائم بالقسط , دفع عن الاسلام البلية، فلما خاف على المؤمنين الفتن ركن إلى الذي إليه ركن، وكان بما آتاه الله عالماً بدينه قائماً، فأجزه اللهم جزاء العارفين وصلِّ عليه في الأولين والآخرين .
أخرج البخاري في صحيحه قولا لابي بكر عن الإِمَامُ الحسن (ع) :بابي شبيه بالنبي …ليس شبيها بعلي.
وقال أنس بن مالك : لم يكن أحد أشبه برسول الله (ص) من الحسن بن عليّ (عليهما السلام ).
في بحار الانوار استشهد في السابع من صفر , عام 51هـ , سقته زوجته جعدة نقيع السم , فقطعت كبداً للمصطفى ورمت , فؤاد بضعته الزهراء بالحزن , فقتلت من له رياسة الدين والدنيا على سنن, قتله بإيعاز من بنو عبادة الوثن .
غادر الكوفة إلى مدينة جده عام 41هـ , لنشر الاسلام وتصدى لتعليم أحكامه و تعاليمه , فأنشأ مدرسة علمية بالمدينة .
وتخرج على يده ابنه الحسن المثنى و الشعبي و أبو يحيى عمير بن سعيد النخعي و أبو مريم قيس الثقفي و طحرب العجلي و إسحاق بن يسار والد محمد بن إسحاق و عمرو بن قيس و عبد الرحمن بن عوف والعلاء ابن عبد الرحمن و جابر بن خلد و أبو الجوزاء و هبيرة بن بركم و نفالة بن المأموم و عيسى بن مأمون بن زرارة و الأصبغ بن نباتة و المسيب بن نخبة ، سويد بن غفلة.
وهذا السبب الاول الذي دعا معاوية للتفكير باغتياله , والثاني تصدي الإِمَامُ لمؤامرة مسخ السنّة النبويّة الشريفة التي كان يخطّط لها معاوية , والثالث كان (ع ) متصديا لكافة محاولات التحريف والتضليل الجاهلي, من خلال نشر الثقافة الرسالية وبث الوعي الديني والسياسي في أوساط المجتمع, وبتلك الانجازات بنى قاعدة جماهيرية صلبة.
وبعد العقد من الزمن خلال فترة وجود الإِمَامُ السبط (ع)في المدينة , لم يستطع معاوية وأزلامه قتل أحد من المسلمين أو مصادرة أموالهم , فكان (ع) في عاصمة جدّه(ص) كهفاً منيعاً لمن يلجأ إليه، وملاذاً حصيناً لمن يلوذ به ، إذ كرّس أوقاته في قضاء حوائج الناس ، ودفع الضيم والظلم عنهم.
وهناك أسباب أخرى منها : تكريم الناس وحفاوتهم بالإِمَامُ وإكبارهم له ممّا ساء معاوية ,لذلك في خطبة معاوية يوم الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثم ذكر أمير المؤمنين وسيّد المسلمين علي بن أبي طالب (ع) فانتقصه ، ثم قال « أيّها الناس! إنّ صبية من قريش ذوي سفه وطيش وتكدّر من عيش أتعبتهم المقادير ، فاتّخذ الشيطان رؤوسهم مقاعد ، وألسنتهم مبارد ، فأباض وفرخ في صدورهم ، ودرج في نحورهم ، فركب بهم الزلل ، وزيّن لهم الخطل، وأعمى عليهم السُبل ، وأرشدهم إلى البغي والعدوان والزور والبهتان ، فهم له شركاء وهو لهم قرين ( ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً )وكفى لهم مؤدّباً ، والمستعان الله » .
فوثب إليه الإِمَامُ الحسن مندفعاً كالسيل رادّاً عليه افتراءه وأباطيله قائلاً :
« أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن نبيّ الله ، أنا ابن من جعلت له الأرضُ مسجداً وطهوراً ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن البشير النذير ، أنا ابن خاتم النبيّين ، وسيّد المرسلين ، وإمام المتّقين ، ورسول ربّ العالمين ، أنا ابن من بعث إلى الجنّ والإنس ، أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين » .
وشقّ على معاوية كلام الإِمَامُ فبادر إلى قطعه قائلاً : « يا حسن! عليك بصفة الرطب »، فقال (ع): « الريح تلقحه والحرّ ينضجه، والليل يبرده ويطيبه ، على رغم أنفك يا معاوية » ثم استرسل (ع) في تعريف نفسه قائلاً :
« أنا ابن مستجاب الدعوة ، أنا ابن الشفيع المطاع ، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب ، ويقرع باب الجنّة ، أنا ابن من قاتلت الملائكة معه ولم تقاتل مع نبيّ قبله ، أنا ابن من نصر على الأحزاب ، أنا ابن من ذلّت له قريش رَغماً » .
فأجابه الإِمَامُ (ع) عمّن هو أهل للخلافة قائلاً : « أمّا الخلافة فلمن عمل بكتاب الله وسنَّة نبيّه ، وليست الخلافة لمن خالف كتاب الله وعطّل السنّة ، إنّما مثل ذلك مثل رجل أصاب ملكاً فتمتّع به، وكأنّه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه » .
وراوغ معاوية ، وانحطّ كبرياؤه فقال : « ما في قريش رجل إلاّ ولنا عنده نِعَم جزيلة ويد جميلة » .
فردّ (ع) قائلاً : « بلى ، من تعزّزت به بعد الذلّة ، وتكثّرت به بعد القلّة» .
فقال معاوية : « من اُولئك يا حسن ؟ » ، فأجابه الإِمَامُ (ع) : « من يلهيك عن معرفتهم » .
ثم استمر (ع) في تعريف نفسه إلى المجتمع فقال :
« أنا ابن من ساد قريشاً شاباً وكهلاً ، أنا ابن من ساد الورى كرماً ونبلاً، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالجود الصادق ، والفرع الباسق ، والفضل السابق ، أنا ابن من رضاه رضى الله ، وسخطه سخطه ، فهل لك أن تساميه يا معاوية ؟ » ، فقال معاوية : أقول لا تصديقاً لقولك ، فقال الحسن : « الحق أبلج، والباطل لجلج ، ولم يندم من ركب الحقّ ، وقد خاب من ركب الباطل ( والحقّ يعرفه ذوي الألباب ) » فقال معاوية على عادته من المراوغة : لا مرحباً بمن ساءك.
لهذا كان معاوية يخشى نشاطات الامام التي حتما ستؤدي إلى زوال حكمة وسلطته , فضاق معاوية ذرعاً بالحسن ( ع ) , و أحس أنه قد ورطه في هذه الشروط التي طفق ينقضها واحدا بعد آخر , و قَدَّر أن خطته بتوريث الملك لابنه يزيد لن تمرّ و الحسن موجود,ففكّر معاوية في طريقة يقوم بها لتصفية وجود الإمام خاصة وأن النشاط الرسالي بدأ يتصاعد بقوة وأن معاوية مكبّلاً في وجوده لا يستطيع التعرض بالسوء لأي من أصحاب الحسن (ع),فأوعز إلى المستشارين السياسيين وهكذا أفراد الحاشية وعناصر من المقربين له أن يدلّوه على طريقة مناسبة يتم فيها اغتيال الإمام (ع)، فالبعض اقترح التصفية المعلنة أمام الناس في المدينة لبث الرعب في كافة أرجاءها والبعض الآخر, اقترح استدعاؤه إلى الشام ثم تنفيذ فيه خطة الاغتيال..
غير أنّ معاوية كان يخشى أن تؤدي هذه العمليات إلى تأليب فئات من الشعب ضد نظامه وتدهور الأوضاع السياسية في الداخل،
ولذلك فكّر في طريقة يتفادى فيها أي بادرة إثارة وذلك من خلال أمرين وهما:
أولاً: عدم تنفيذ خطة الاغتيال بصورة علنية أو استفزازية ممّا قد تثير حفيظة الشعب أو المعارضة.
ثانياً: عدم المباشرة في تنفيذ خطة الاغتيال لإبعاد الشبهة قدر الإمكان عن السلطة ,فكان اختياره السمّ كوسيلة هادئة للجريمة..
وقد جرب معاوية هذه الوسيلة , فعمد إلى قتل سعد بن أبي وقاص بالسمّ.
فأوكل تنفيذ المهمة إلى إحدى زوجات الحسن (ع ) و هي جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي التي سقته السم و قد كان معاوية دسّ إليها أنك إن احتلت في قتل الحسن وجهت إليك بمائة ألف درهم و زوجتك يزيد.
وإقطاع عشرة ضياع من سورار وهي موضع بالعراق من بلد السريانيين, وسواد الكوفة.
وفي بداية العرض فكرت جعدة بالأمر ,ورغم انها عاقر, كانت معاملة الإِمَامُ (ع) اليها افضل معامله ,بل لها مكانه كبيرة ,ولكن الاغراءات تغلبت على افكارها حيث زين الشيطان لما ينتظرها , فلم تطل التفكير في الأمر بل أعطت موافقة فورية.
جاءت جعدة بالطعام المسموم وقدمته إلى الإِمَامُ فلمّا وضعته بين يديه قال (ع): إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله على لقاء محمد سيد المرسلين، وأبي سيد الوصيين وأمي سيدة نساء العالمين، وعمي جعفر الطيار في الجنة، وحمزة سيد الشهداء (صلوات الله عليهم أجمعين ).
وأما إن رفعت جعدة المائدة من تحت الإِمَامُ حتى بدأ السم ينتشر داخل جسمه ويقطع أمعاءه, فكان السم يسري.. والألم يسري معه.. وكلاهما يصرمان ما تبقى من عمره الشريف.
وثقل حال الإِمَامُ (ع) واشتدّ به الوجع , فالتفت إلى أهله قائلاً :
« أخرجوني إلى صحن الدار أنظر في ملكوت السماء »
فحملوه إلى صحن الدار ، فلمّا استقرّ به رفع رأسه إلى السماء وأخذ يناجي ربّة ويتضرع اليه قائلاً :
« اللّهم إنّي احتسب عندك نفسي ، فإنّها أعزّ الأنفس عليَّ لم أصب بمثلها ، اللّهم آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي » .
وجاء إليه أخوه الإِمَامُ الحسين (ع) فلمّا رأى حاله بكى، فقال له الحسن (ع): ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي على ما أراك فيه.
فقال له الحسن (ع): إن الذي يأتي إليّ بسمّ يدبّر فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، يدّعون أنهم من أمة جدنا، وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك، وسفك دمك، وانتهاك، وسبي ذراريك ونسائك وأخذ ثقلك، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار).
وظل الإِمَامُ الحسن (ع) يكابد الألم وقد سيطر السّم على كل أنحاء جسمه , و لما أحس (ع) ما أصابه و أدرك قرب منيته شكا لأخيه الحسين (ع) قائلاً: (يا أخي سقيت السّم ثلاث مرات لم أسق مثل هذه، إني لأضع كبدي, فجعلت أقلبها بعود معي فقال الحسين : من سقاك؟ فقال أتريد أن تقتله إن يكن هو فالله أشد نقمة منك و إن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بريء »
يقول جنادة بن أبي أمية: (… ثم انقطع نفسه وأصفر لونه، حتى خشيت عليه، ودخل الحسين (عليه السلام) والأسود بن الأسود عليه، حتى قبّل رأسه بين عينيه، ثم قعد عنده فتسارّا جميعاً فقال أبو الأسود: إنا لله إن الحسن قد نعيت إليه نفسه.
ودنا الإِمَامُ الحسين من أخيه الحسن (عليهما السلام) فوجد أن وجه الإِمَامُ يميل إلى الاخضرار فقال الإِمَامُ الحسين (عليه السلام): مالي أرى لونك إلى الخضرة؟ فبكى الحسن؟ وقال: يا أخي لقد صحّ حديث جدي فيّ وفيك.
ثم تعانقا طويلاً وتعابرا ثم بكيا كثيراً فسأل الإِمَامُ الحسين أخاه الحسن (عليهما السلام) عن حديث رسول الله (ص) فقال الإِمَامُ الحسن (ع): (أخبرني جدّي قال: لما دخلت ليلة المعراج روضات الجنان، على منازل أهل الإيمان رأيت قصرين عاليين متجاورين على صفة واحدة إلا أن أحدهما من الزبرجد الأخضر والآخر من الياقوت الأحمر، فقلت: يا جبرائيل لمن هذان القصران فقال: أحدهما للحسن والآخر للحسين (عليهما السلام).
فقلت: يا جبرائيل فلم لا يكونان على لونٍ واحد؟ فسكت ولم يرد جواباً، فقلت لم لا تتكلم؟ قال: حياءً منك. فقلت له: سألتك بالله إلا ما أخبرتني فقال: أما خضرة قصر الحسن فإنه يموت بالسم ويخضر لونه عند موته، وأما حمرة قصر الحسين فإنه يقتل ويحمر وجهه بالدم.
وآخر أنفاس الإِمَامُ (ع) أخذ يتلو آية من الذكر الحكيم ويبتهل إلى الله ويناجيه وكانت كلمته الأخيرة عليكم السلام يا ملائكة ربي ورحمة الله وبركاته وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، وغاب شخص الإِمَامُ (صلوات الله وسلامه عليه) عن دار الدنيا إلى دار الخلد في جنات النعيم).